|
01-Feb-2010, 12:58 AM | #1 |
عضو مميز
|
قصص الحب العذري ومنها عنتر وعبلة وقيص وليلى والكثببببر.....
بسم الله الرحمن الرحيم انا جمعت لكم هالقصص وان شاء الله تعجبم
ولكم مني أرق تحية.... قصة الحب العذري عرفت قبيلة عذرة فى أيام بني أمية بهذا اللون من الحب، ونسب إليها، واشتهرت به وبكثرة عشاقها المتيمين الصادقين في حبهم، المخلصين لمحبوباتهم، الذين يستبد بهم الحب، ويشتد بهم الوجد، ويسيطر عليهم الحرمان، حتى يصل بهم إلى درجة من الضنى والهزال كانت تفضي بهم في أكثر الأحيان إلى الموت، دون أن يغير هذا كله من قوة عواطفهم وثباتها، أو يضعف من إخلاصهم ووفائهم، أو يدفعهم إلى السلو والنسيان. وقديماً قال رجل منهم : "لقد تركت بالحي ثلاثين قد خامرهم السل وما بهم داء إلا الحب". وسئل آخر : "ممن أنت؟" فقال : "من قوم إذا أحبوا ماتوا"، فقالت جارية سمعته : "عذري ورب الكعبة". وليس من السهل أن نحدد تماماً الأسباب التي جعلت هذه القبيلة تشتهر بهذا اللون من الحب ليصبح ظاهرة اجتماعية تعرف بها وتنسب إليها، وإن يكن القدماء قد حاولوا رد هذا إلى رقة قلوبهم وجمال نسائهم. سئل أعرابي منهم : "ما بال قلوبكم كأنهم قلوب طير تنماث كما ينماث الملح! أما تجلدون ؟ فقال : إنا لننظر إلى محاجر أعين لا تنظرون إليها". وقيل لآخر : " يا هذا بحق أقول إنكم أرق الناس قلوباً". ويقول ابن قتيبة : "والجمال في عذرة والعشق كثير". ولكن هذه المحاولات تبدو غير كافية تماماً لتعليل هذه الظاهرة، إذ تظل معها الأسئلة واردة : هل كانت عذرة حقا أرق العرب قلوبا وأجملها نساء ؟ ومن ذا الذى يستطيع أن يدعي أنها امتازت من بين جميع القبائل العربية بالرقة والجمال ؟ وإذا صح هذا الادعاء فكيف نعلل ظهور هذا الحب في غيرها من القبائل ؟ عذرة لم تنفرد وحدها من بين القبائل العربية بهذا اللون من الحب، وإنما ظهر أيضاً في غيرها من القبائل كقبيلة بني عامر حيث ظهر مجنون ليلى قيس بن الملوح، وقبيلة بني كنانة حيث ظهر قيس بن ذريح صاحب لبنى. فالمسألة ليست مسألة عذرة وحدها، والحب العذرى ليس وقفاً عليها دون غيرها من القبائل، ولكنه لون من الحب عرفته البادية العربية مع غيره من ألوان الحب المختلفة مرده الأساسى إلى المزاج الشخصي الذي يدفع بعض الناس إلى اللهو والمجون والشرك في الحب، كما يدفع بعضهم إلى الوفاء والإخلاص والتوحيد فيه، ثم إلى طبيعة الظروف التي تحيط بالعاشق أتدفعه إلى اللهو والعبث أم ترده إلى الطهر والعفاف؟ فالمسألة ليست مسألة عذرة وحدها، ولكنها مسألة المجتمع البدوى العربي في مجموعه، وهذا اللون من الحب هو التعبير العاطفي الطبيعي في هذا المجتمع، حيث تسيطر تقاليد خاصة ومثل معينة على الحياة الاجتماعية فيه، فتخلق هذا اللون المتميز من ألوان الحب الروحي. فالمسألة ليست مسألة أن "الجمال فى عذرة كثير"، أو أن قلوب أبنائها" كقلوب الطير تنماث كما ينماث الملح"، ولكنها مسألة مجتمع البادية العربية بتقاليده ومثله المسيطرة عليه، في عذرة وفي غير عذرة من تلك القبائل التي كانت تنزل في البادية العربية ، في نجد وفي شمالي الحجاز. أما انتشار هذه الظاهرة فى عذرة ذلك الانتشار الذي صوره أحد أبنائها بأنه ترك في الحي "ثلاثين قد خامرهم السل وما بهم داء إلا الحب"، فلا يمكن أن يفهم إلا على أساس فهم الظواهر الاجتماعية عامة، فهي "عدوى اجتماعية" جعلت من هذا الحب بدعا بين شباب القبيلة يلعب فيه التقليد دورا كبيرا يدفع كل شاب إلى صاحبة له ليعرف بها كما عرف غيره من شبابها بصاحباتهم، ثم تتدخل الظروف الاجتماعية لتطبع هذا الحب بالطابع العذري المعروف، فالمسألة فى حقيقتها ظاهرة اجتماعية انتشرت كما تنتشر سائر الظواهر الاجتماعية على أساس من العدوى والتقليد. أما لماذا نسب هذا الحب إلى عذرة دون غيرها من القبائل؟ ففي أغلب الظن أن السبب في هذا يرجع إلى أنها هي التي مثلت هذه الظاهرة الاجتماعية أقوى تمثيل، لكثرة من عرف من عشاقها الذين رأى فيهم الرواة المثل الكاملة لهذا الحب، والنماذج الدقيقة له ، والألسنة المعبرة عنه أدق تعبير وأروعه ،وخاصة عند جميل بثينة الذي يعد بحق أروع مثل له، وأدق نموذج عرفته البادية منه، وأقوى الألسنة تعبيراً عنه، وأشهر من لمع اسمه في تاريخه. وربما يرجع السبب أيضاً إلى أن أقدم من عرفه الرواة من أصحاب هذا الحب في العصر الأموي، وهو عروة بن حزام، كان عذريا من قبيلة بني-------------------------------------------------------------------------------- عروة و العفراء هي من أقدم قصص العذريين تاريخيا. كان عروة يعيش في بيت عمه والد عفراء بعد وفاة أبيه، وتربيا مع بعض وأحبا بعضهما وهما صبيان. فقد ربط الحب بين القلبين الصغيرين منذ طفولتهما المبكرة، وشب مع شبابهما. فلما شب عروة تمنى عروة أن يتوج الزواج قصة حبهما الطاهرة، فأرسل إلى عمه يخطب إليه عفراء، ووقف المال عقبة في طريق العاشقين، فقد غالت أسرة عفراء في المهر، وعجز عروة عن القيام به. وألح عروة على عمه، وصارحه بحب عفراء، ولأنه كان فقيرا راح والدها يماطله ويمنيه الوعود، ثم طلب إليه أن يضرب في الأرض لعل الحياة تقبل عليه فيعود بمهر عفراء. ولم يكذب عروة خبرا، وانطلق من غده بحثاً عن المال، وعاد وجيبه عامر بالمهر وما يزيد ، فقد تيسر له ما كان يسعى إليه، والأمل يداعب نفسه، ويرسم له مستقبلا سعيداً يجمع بينه وبين عفراء. وفى أرض الوطن يخبره عمه أن عفراء قد ماتت، ويريه قبراً جديداً ويقول له إنه قبرها. وتتحطم آمال عروة، وينهار كل ما كان يبنيه لأيامه المقبلة، وترتبط حياته بهذا القبر، يبثه آلامه، ويندب حظه، ويبكي حبه الضائع ومأساته الحزينة، ويذيب نفسه فوق أحجاره حسرات ودموعاً، فقد فقد حبيبته ورفيقة صباه. ثم تكون مفاجأة لم يكن يتوقعها، لقد ترامت إليه أنباء بأن عفراء لم تمت، ولكنها تزوجت. فقد قدم أموي غني من الشام في أثناء غيبته، فنزل بحي عفراء، ورآها فأعجبته، فخطبها من أبيها، ثم تم الزواج رغم معارضتها، ورحل بها إلى الشام حيث يقيم. وتثور ثائرة عروة، ويصب جام غضبه على عمه الذي خدعه مرتين: خدعه حين مناه عفراء، ودفع به إلى آفاق الأرض البعيدة خلف مهرها، ثم خدعه حين لفق له قصة موتها، وتركه فريسة أحزانه ودموعه، فمضى يهجوه : فيا عـــم يا ذا الغـــدر لازلــــت ** مبتلي حليفا لهم لازم وهوان غدرت وكان الغدر منك ســجية ** فألزمت قلبي دائم الخفقــان وأورثتني غما وكربا وحسـرة ** وأورثت عيني دائم الهمــلان فلازلت ذا شوق إلى من هويته ** وقلبك مقسوم بكل مكـــــان وانطلق عروة إلى الشام، ونزل ضيفاً على زوج عفراء والزوج يعرف أنه ابن عم زوجته ولا يعلم بحبهما بطبيعة الحال، ولأنه لم يلتقي بها بل بزوجها فقد راح هذا الأخير يماطل في إخبار زوجته بنبأ وصول ابن عمها. ففكر عروة في حيلة عجيبة، فقد ألقى بخاتمه في إناء اللبن وبعث بالإناء إلى عفراء مع إحدى الجواري. وأدركت عفراء على الفور أن ضيف زوجها هو حبيبها القديم قد عاد فتلتقي به .. ويلتقي العاشقان بعد تلك الأيام الطويلة الحزينة التي باعدت بينهما، ويتذكران ماضيهما السعيد فوق أرض الوطن البعيدة وما فعلت بهما الأيام، وتكون شكوى، وتكون دموع. صمم عروة على العودة إلى وطنه حرصا على سمعة عفراء وكرامتها، واحتراما لزوجها الذي أحسن وفادته وأكرم مثواه. ورحل عروة بعد أن زودته عفراء بخمار لها ذكرى حبيبة منها. وفي أرض عذرة التي شهدت رمالها السطور الأولى من قصة حبه، تكون الأدواء والأسقام في استقباله. فقد ساءت حال عروة، واشتد عليه الضنى، واستبد به الهزال، وألح عليه الإغماء والخفقان، وأخذه مرض السل حتى لم يبقي منه شيئ، وعجز الطب عن علاجه. ولم يجد عروة إلا شعره يفزع إليه ليبثه آلامه وأحزانه، ويصور فيه ما يلح على نفسه من أشواق وحنين، وما يضطرب في جوانحه من أسى ووجد. يقول مرة: تحملت من عفراء ما ليس لي به ** ولا للجبال الراسيات يدان كأن قطاة علقت بجناحـــــــها ** على كبدي من شدة الخفقان جعلت لعراف اليمامة حكمــــــه ** وعراف نجد إن هما شفياني فقالا: نعم نشفي من الداء كله ** وقاما مع العواد يبتدران فما تركا من رقية يعلمانــــها ** ولا سلوة إلا وقد سقيانى وما شفيا الداء الذي بي كــله ** ولا ذخرا نصحا ولا ألواني فقالا: شفاك الله، والله مالنـــا ** بما ضمنت منك الضلوع يدان فويلي على عفراء ويلا كأنــه ** على الصدر والأحشاء حد سنان ويقول مرة : فوالله لا أنســــاك مـــا هبـــت الصبا ** وما عقبتها فى الرياح جنوب وإنى لتعرونــــي لذكـــــراك هـــزة ** لها بين جلدي والعظام دبيب وـما هــــو إلا أن أراهــــا فجـــــأة ** فأبهت حتى ما أكاد أجيب وأصرف عن رأيي الذي كنت أرتني ** وأنسى الذي أعددت حين تغيب حلـــــفت بـــــرب الراكـــعــين لربهم ** خشوعاً، وفوق الراكعين قريب لئن كان برد المــــاء حران صاديــــا ** إلى حبيب إنها لحبيب قضى عروة أيامه بين أمل عاش له ثم ضاع منه إلى الأبد، وألم عاش فيه وقد استقر في أعماقه إلى الأبد، وبينهما خيال عفراء الحبيبة لا يفارقه. ثم كانت نهاية المأساة، فقد أسدل الموت على العاشقين ستار الختام، بموت عروة. ظل عروة يهذي باسم عفراء ويحادث طيفها حتى وافته المنية. بلغ النبأ عفراء، فاشتد جزعها عليه، وذابت نفسها حسرات وراءه، وظلت تندبه وتبكيه وامتنعت عن الطعام والشراب حتى لحقت به بعد فترة وجيزة، ودفن في قبر بجواره . ويأبى خيال القصاص إلا أن يجمع بينهما بعد الموت، فقد دفنت عفراء إلى جانب قبر عروة، ومن القبرين نبتت شجرتان غريبتان لم ير الناس مثلهما من قبل، ظلتا تنموان وتلتف إحداهما على الأخرى، تحقيقا لأمل قديم حالت الحياة دون تحقيقه، وأبى الموت إلا أن يحققه. هذه هى أقدم قصة وصلت إلينا من قصص الحب العذري في العصر الأموي، وهي تمثل المعالم الأساسية، والملامح المميزة، لكل قصص الحب العذري، ومن المحتمل أن تكون هي التي أعطت هذا اللون من الحب اسمه الذي عرف به. على نحو من هذه الصورة التي رأيناها في قصة عروة وعفراء كانت سائر قصص العذريين الأمويين. قيس وليلى حكاية ليلى والمجنون هي من أغلب قصص الحب المشهورة على الإطلاق. بل أغلبها شهرة ومعرفة عند العام والخاص. ولا بأس من إعادة ذكرها لمن لا يعرف تفاصيلها بشكل جيد. المجنون هو قيس بن الملوح العامرى ابن عم ليلى. حدثت هذه القصة في صدر الإسلام ، في القرن الأول الهجرى، في وقت كانت البادية العربية تعيش في عزلة نسبية . بدأت قصتهما كما تبدأ أكثر قصص الحب فى البادية في المرعى، وهما صبيان يلعبان ويرعيان ماشية أهلهما. وكبر العاشقان، وكبر معهما حبهما، وحجبت ليلى عن قيس، فازداد حبه لها، واشتد حنينه إلى أيامهما الصغيرة أيام أن كان الحب طفلا يرعاهما دون رقيب أو حجاب. يقول قيس : تعلقت بليلى وهـــي ذات ذؤابــة ** ولم يبد للأتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم، ياليت أننا ** إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم ولكن عجلة الزمن لا ترجع إلى الوراء، وطفل الحب الذي رعاهما في صباهما الصغير يكبر وينمو، ويشتد ساعده، ويقوى عدوه، وسهامه الصغيرة الرقيقة التي ضمت قلبيهما صبيين في المرعى أصبحت بعد أيام الصبا حادة نافذة. لقد جاء الإسلام فرفع منزلة المرأة العربية فلم تعد واحدة من أساليب اللهو التي اعتاد عليها البدوي ليحقق وجوده الضائع في الصحراء المترامية الأطراف إلى جانب الخمر والميسر. إن الدين الجديد يحرم عليه الخمر ويحرم عليه الميسر، ويفرض عليه قيودا دينية واجتماعية وخلقية. وكان الشاب ينظر حوله، فلا يرى إلا بنات أعمامه، إنهن رفيقات اللعب في الصبا، وأول من يتعرف إليهن من نوع الأنثى فيختار الشاب إحداهن ، تسحره نظرة منها أو التفاتة أو كلمة عابرة ، ويميل القلب نحوها ولكن فجأة تختفي بنت العم تماما ، فالتقاليد تحجبها داخل خيمتها، لا تخرج منها إلا بصحبة حارسة، وللضرورة . هذه الظروف ما هي إلا تربة خصبة لنمو العاطفة واشتعالها ، فيستبد الوجد والشوق إلى المحبوبة ويزداد التعلق بها، وتسيطر صورتها على خيال الحبيب ولا يفكر إلا فيها ، إن حياته كلها أحلامه وأشواقه تتركز في نقطة واحدة ، أن يراها . ويتحول الشاب الذي كان يزهو بفتوته بين أقرانه، إلى شبح هزيل يجبو الصحراء، تتقاذفه العلل والأوهام، يردد أبيات شعر رائعة عن حبه وعن ذكريات طفولته ويذكر فيها محبوبته كثيراً. هذه إجمالا ملخص القصة والكثير من القصص المشابهة لها. اشتد هيام قيس، ولم يجد إلا شعره متنفسا له ينفس فيه عن نفسه ما تنوء به من وجد وشوق وحنين. واشتهر أمره في الحي، وتداولت الألسنة قصة حبه. تقدم قيس إلى عمه طالباً الزواج من ابنته ليلى ، وبدلا من أن يفرح العم ويرحب، إذا به يرفض، ويصر على الرفض .. لماذا ؟ لأن التقاليد تمنع العرب من الموافقة على زواج ابنته من رجل تشبب بها أي تغزل فيها في شعره ! وفي نفس الوقت تقدم فتى من ثقيف يخطبها أيضا، ويكرهها أهلها على قبول الثقفي ورفض قيس خوفاً من العار وقبح الأحدوثة، وقطعاً لألسنة الشائعات وقالة السوء والإفك. ومضى الثقفي بليلى إلى الطائف، ولعل ذلك الحل كان بوحي من أبيها الذي شاء أن يبعدها عن مسرح الأحداث . وازدادت حيرة قيس واضطرابه، وثقلت على نفسه الهموم والأحزان، وصار يحس أنه بين شقي رحى طاحنة : حب لا يملك منه فكاكا، ويأس لا يرى معه بصيصاً من أمل. ولا يجد سوى شعره مرة أخرى ينفس فيه ما تفيض به نفسه من حزن وشجن، وحيرة واضطراب، وضيق وسخط. يقول : فأنت التي إن شئت أشقيت عيشتي ** وإن شئت بعد الله أنعمت باليا وأنت التي ما من صديق ولا عـــــــدا ** يرى نضو ما أبقيت إلا رثى ليا إذا سرت في الأرض الفضاء رأيتنـي ** أصانع رحلي أن يميل حياليا يمينا إذا كانت يمينا، وإن تكــــــــن ** شمالا يناز عني الهوى عن شماليا أعد الليــــــالي لـــــيـــلــة بعد ليلـة ** وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا أرانى إذا صليت يممت نحوهــــــــــا ** بوجهي وإن كان المصلى ورائيا وما بي إشراك، ولكن حبهــــــــــــا ** كمثل الشجا أعيا الطبيب المداويا أحب من الأسماء ما وافق اسمهـــــا ** وأشبهه أو كان منه مدانيا هي السحر إلا أن للسحر رقيـــــــــة ** وأني لا ألفي لها الدهر راقيا ويقول أيضا مصورا الصراع بين اليأس الذي يميته، والأمل الذي يحييه: ألقى من اليأس تارات فتقتلنــي ** وللرجاء بشاشات فتحييني ويقول مصورا السخط الذي تنوء به نفسه الحزينة المتمردة: خليلي، لا والله لا أملك الـــــذي ** قضى الله في ليلي ولا ما قضى ليا قضاها لغيرى، وابتلاني بحبها ** فهلا بشئ غير ليلى ابتلانيا وانهار أعصاب قيس تحت وطأة هذه الرحى الطاحنة، وجن جنونه ، بعد أن ترك وحيدا، وعصفت بعقله العواصف ، فخرج إلى الصحراء هائماً على وجهه لا يكاد يدري من أمره شيئاً، يناجي خيالها البعيد، ويصور فى شعره محنته القاسية، ومصابه الفاجع في أعز ما يملك فى الحياة : قلبه وعقله اللذين ذهبت بهما ليلى إلى غير رجعة. يقول : أقول لأصحابى: هي الشمس ضوؤها ** قريب ولكن في تناولها بعد لقد عارضتنا الريح منها بنفحــــــــــة ** على كبدي من طيب أرواحها برد فما زلت مغشيا علي، وقد مضـــــــت ** أناة وما عندي جواب ولا رد أقلب بالأيدي، وأهلي بعولــــــــــــة ** يفدونني لو يستطيعون أن يفدوا ولم يبق إلا الجلد والعظم عاريــــــــــا ** ولا عظم لي أن دام ما بي ولا جلد أدنياي ما لي في انقطاعي وغربتي ** إليك ثواب منك دين ولا نقد عديني - بنفسي أنت - وعداً فربمــــا ** جلا كربة المكروب عن قلبه الوعد وقد يـــبــتلي قــــوم ولا كبليتــــــي ** ولا مثل جدي في الشقاء بكم جد غزتني جنود الحب من كل جانــــــــب ** إذا حان من جند قفول أتى جند ولا شك أن عقله عجز تماما عن فهم أو تقبل ذلك المنطق الذي خضع له عمه، وكل القبيلة، التي لم يحاول أحد فيها أن يلين من صلابة رأس ذلك الرجل، أو يوفق بين الرأسين في الحلال. ولا شك أن ذلك العم كانت لديه أسباب عديدة .. لكن أحدا لم يخبرنا عنها . إننا نعرف فقط أن التقاليد العربية في ذلك الوقت هي التي أملت عليه كلمة لا، وأن هذه الكلمة تعلقت بلسانه، وسدت أذنيه وأغمضت عينيه فلم ير ابن اخيه يهيم في الصحراء، ولم يرق قلبه وهو يستمع لأرقى الشعر يردده كل الناس بعد قيس، يصور فيه لوعته ويذيب شبابه الغض قطرة قطرة على رمال الصحراء التي لا ترتوي . وتمر الأيام، وقيس لا يزداد إلا سوءا، لقد غزته حقا كما يقول "جنود الحب من كل جانب"، بل لقد غزته جنود الجنون حتى ذهبت بعقله، وهو جنون بالغ فيه الرواة وتخبطوا في تصويره، ولعب خيال القصاص في ذلك دوراً كبيراً، حتى تحولت حياة العاشق المسكين على أيديهم إلى حياة يصعب - بل يستحيل - تصورها. والمسألة أبسط مما تصوروا، لقد سيطر الحب على عقل قيس، واستبد به، حتى أذهله عن كل ما عداه، وتركه تائهاً في أوهامه، هائماً في خيالاته، لا يكاد يصحو منها إلا إذا ذكرت له ليلى. وهو يصور فى شعره حاله تصويراً دقيقاً لا صلة له بمبالغات الرواة وأخيلة القصاص. يقول مرة : أيا ويح من أمسى تخلس عقله ** فأصبح مذهوباً به كل مذهب إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت ** عوازب قلبي من هوى متشعب ويقول أخرى : وإنى لمجنون بليلى موكل ** ولست عزوفا عن هواها ولا جلدا إذا ذكرت ليلى بكيت صبابة ** لتذكارها حتى يبل البكا الخدا ويقول أيضأ : وشغلت عن فهم الحديث سوى ** ماكان فيك فإنه شغلي وأديم لحظ محدثي لــــــــيرى ** أن قد فهمت وعندكم عقلي وبذل أهله كل ما في وسعهم لينقذوه مما آلت إليه حاله، ولكن محاولاتهم ذهبت جميعا أدراج الرياح. يقول قيس بن الملوح مصوراً اضطرابه والحيرة التي به أدق تصوير وأروعه: فوالله ثم والله إني لدائب ** أفكر ما ذنبي إليك وأعجب ؟ ووالله ما أدري علام قتلتني ؟ ** وأي أموري فيك يا ليل أركب ؟ أأقطع حبل الوصل فالموت دونه ؟ ** أم أشرب رنقا منكم ليس يشرب ؟ أم أهرب حتى لا أرى لي مجاورا ؟ ** أم أصنع ماذا أم أبوح فأغلب ؟ فأيهما يا ليل ما ترتضينه؟ ** فإني لمظلوم ، وإني لمعتب إنها الحيرة والاضطراب والقلق النفسي عبر عنهما قيس هذا التعبير الرائع، معتمدا على هذا الأسلوب الاستفهامى الحائر، وهذه التقسيمات المضطربة القلقة لوجوه المشكلة التي يعانيها كما يعانيها غيره من أصحابه العذريين. وظل قيس في صحرائه غريباً مستوحشاً مشردا لم تبق منه إلا بقية من جسد هزيل، وبقية من عقل شارد كلما ثبت إليه فزع إلى شعره يبثه ما يلقاه في حب ليلى من عناء وشقاء، وما يقاسيه بسببه من كرب وتباريح، حتى لقي منيته في واد مهجور خشن كثير الحجارة ، بعيداً عن أهله، وليلى التي عذبه حبها ، وبعيداً عنها بعد ما وهب لها حياته وفنه، بعيداً عن أبيها الذي كان سبب شقائه وبلواه، ولكنه لم ينسى أن يوجه إليه قبل أن يودع الحياة أبياتا وجدت بعد موته مكتوبة إلى جواره، والتي صور فيها ما تفيض به نفسه من حقد عليه، كما صور فيها مأساته الحزينة تصويراً دقيقاً مؤثراً : ألا أيها الشيخ الذي ما بنا يرضى ** شقيت ولا هنيت من عيشك الغضا شقيت كما أشقيتني وتركتنــــي ** أهيم مع الهلاك لا أطعم الغمضا كأن فؤادي في مخالب طائـــــــر ** إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضا كأن فجاج الأرض حلقة خاتــــــــم ** علي فما تزداد طولا ولا عرضا إنها النتيجة الطبيعية لهذا الصراع الدائب المتصل الذي لا يهدأ ولا يستقر. أسقام وأدواء وأوجاع وعلل تهجم على العاشق المسكين، فينوء تحت وطأتها جسده الذي أهزله الضنى، وأضناه الهزال، وتنهار معها أعصابه التي أرهقها الصراع النفسي الذي لا ينتهي إلى نهاية مريحة، والتي أجهدها التفكير في مشكلات معقدة لا حل لها. فالموت فعلا راحة لكل حي. ولاشك أنه كان شخصية فريدة من نوعها .. أو لعلها المبالغات التي يولع بها الناس فيزينون بها قصص الحب تعبيراً عما تختزنه قلوبهم من كبت وحرمان. يقولون : إن قيساً كان يغمى عليه كلما ذكر اسم ليلى، سواء كان الحديث عنها بمكروه أو بخير فهو يغشى عليه بمجرد سماعه اسمها ! ويقولون إنه وقف ذات يوم يتحدث إلى ليلى وفي يده جمرة من نار فأخذت النار تحرق رداءه حتى أتت عليه ووصلت إلى جسمه وقيس لا يشعر ! وفي أواخر أيامه حكي عن قيس أنه عاش مع الوحش فأنس إليه وفضله على بني الإنسان، وأن الوحوش أيضاً صارت تأنس إليه ! فقلوبهم رقت لحاله، بينما ظلت قلوب أهله كالحجر الذي لم يتفتت ولم يذب لسماع أشعار قيس الرائعة. وأسدل الستار على مأساة أخرى من مآسي الحب العذري. ((((( وفي انتظار قصة من نفس النوع وغير بعيدة في الزمن ولا في الاحداث عن هذه.))))) -------------------------------------------------------------------------------- قيس ولبنى من هذه القصص الشهيرة حكاية قيس آخر، هو قيس بن ذريح الذي عشق لبنى في زمن معاوية. في نفس الوقت الذي شهدت نجد فيه مأساة مجنون ليلى شهد الحجاز مأساة أخرى من مآسي الحب العذري بطلاها قيس بن ذريح وصاحبته لبنى. هو مضري من كنانة، وهي يمنية من خزاعة، تجمع بينهما صلة نسب من جهة الأم، فقد كانت أم قيس خزاعية. وكانت منازل كنانة في ظاهر المدينة، ومنازل خزاعة في ضواحي مكة. كان قيس ابن أحد أثرياء البادية، وكان أخا من الرضاعة للحسين بن علي. وذات يوم حار كان قيس في إحدى زياراته لأخواله الخزاعيين وهو يسير في الصحراء شعر بالعطش الشديد، فاقترب من إحدى الخيام طالبا ماء للشرب ، فخرجت له فتاة طويلة القامة رائعة الجمال ذات حديث حلو هي لبنى بنت الحباب . استسقاها فسقته ، فلما استدار ليمضي إلى حال سبيله دعته لأن يرتاح في خيمتهم قليلاً ويستبرد ، فقبل دعوتها وهو يتأملها بإعجاب شديد . وتقول الحكاية أن أباها الحباب جاء فوجد قيسا يستريح عندهم فرحب به وأمر بنحر الذبائح من أجله واستبقاه يوما كاملاً. ثم تردد عليها وشكا لها حبه فأحبته. وعندما عاد قيس ، مضى إلى أبيه يسأله أن يخطبها له فأبى. فالأب ذا الثراء العريض كان يريد أن يزوجه واحدة من بنات أعمامه ليحفظ ثروة العائلة . لقد كان أبوه غنيا كثير المال، وكان قيس وحيده، فأحب أن لا يخرج ماله إلى غريبة، وقال له : بنات عمك أحق بك. فمضى إلى أمه يسألها أن تذلل له العقبة عند أبيه، فوجد عندها ما وجد عنده. لم يجد قيس أذنا صاغية ، ومع ذلك لم ييأس ولجأ إلى الحسين بن علي وكان أخاه في الرضاع، فقد أرضعته أم قيس معه ووسطه في الأمر. وشاء الله أن تكلل وساطة الحسين بالنجاح. فلقد مضى الحسن إلى الحباب والد لبنى، ثم مضى إلى ذريح والد قيس، واستطاع أن يجمع بين العاشقين برباط الزوجية المقدس. وتحقق لقيس أمله وتزوج من لبناه، لكن القدر أبى عليهما سعادتهما ولم يشأ للعاشقين أن يتحولا إلى زوجين عاديين ممن يقتلهما السأم. وظل الزوجان معا، لعدة سنوات دون أن ينجبا، ودون تردد أشاعت الأسرة أن لبنى عاقر . وخشي أبواه أن يصير مالهما إلى غير ابنهما ، فأرادا له أن يتزوج غيرها لعلها تنجب له من يحفظ عليهما مالهما. ولما كان أبو قيس تواقا لذرية تتوارث ثروته الطائلة، فقد ألح على ابنه أن يتزوج من أخرى لتنجب له البنين والبنات. لكن قيسا أبى .. لقد أشفق على لبنى من ضرة تشقيها وتعذبها . كما رفض أيضا أن يطلق زوجه الحبيبة، وتحرجت الأمور بينه وبين أبويه، إنهما مصممان على طلاقها، وهو مصمم على إمساكها. وظل الأب يلح ويسوق عليه كبار القوم، دون جدوى وإمعانا في الضغط عليه أقسم الأب ألا يظله سقف بيت طالما ظل ابنه مبقيا على زواجه من لبنى . فكان يخرج فيقف في حر الشمس، ويأتي قيس فيقف إلى جانبه ويظله بردائه ويصلي هو بالحر حتى يفيء الظل فينصرف عنه، ويدخل إلى لبنى ويبكى وتبكى معه، ويتعاهدان على الوفاء. وتأزمت المشكلة، وساءت العلاقات بين طرفيها، واجتمع على قيس قومه يلومونه ويحذرونه غضب الله في الوالدين، وما زالوا به حتى طلق زوجه. كان قيس شديد البر بوالده فلم يشأ أن يتركه يتعذب في الهجير، واضطر اضطرارا لأن يطلق لبنى. رحلت لبنى إلى قومها بمكة، وجزع قيس جزعاً شديداً، وبلغ به الندم أقصى مداه، وتحولت حياته إلى أسف لا ينتهي، وندم لا ينقطع، ودموع لا تتوقف، وحسرات لا تقف عند حد، ولم يجد أمامه سوى شعره يبثه أسفه وندمه ودموعه وحسراته. يقول مرة : يقولون: لبنى فتنة كنت قبلهـــــــــا ** بخير، فلا تندم عليها وطلق فطاوعت أعدائي، وعصيت ناصحي ** وأقررت عين الشامت المتخلق وددت، وبيت الله، أني عصيتهــــــم ** وحملت في رضوانها كل موبق وكلفت خوض البحر، والبحر زاخـــــر ** أبيت على أثباج موج مغرق كأني أرى الناس المحبين بعدهـــــا ** عصارة ماء الحنظل المتفلق فتنكر عيني بعدها كل منظــــــــــر ** ويكره سمعي بعدها كل منطق ويقول أخرى : وفارقت لبنى ضلة فكأننـــــــي ** قرنت إلى العيوق ثم هويت فيا ليت أني مت قبل فراقهـــــا ** وهل ترجعن فوت القضية ليت فصرت وشيخي كالذي عثرت به ** غداة الوغى بين العداة كميت فقامت، ولم تضرر هناك، سوـية ** وفارسها تحت السنابك ميت فإن يك هيامي بلبنى غوايـــــة ** فقد يا ذريح بن الحباب، غويت فلا أنت ما أملت في رأيتــــــــه ** ولا أنا لبنى والحياة حويت فوطن لهلكى منك نفسا فإنني ** كأنك بي قد يا ذريح، قضيت لم يتوقف قيس عن ملاحقة لبنى بعد الطلاق . فلم يطق عن لبنى صبرا، واشتد حنينه لها، وشوقه إليها، فعاود زيارتها، وشكاه أبوها للسلطان معاوية، فكتب معاوية إلى مروان بن الحكم يهدر دم قيس إن هو تعرض للبنى ، وحيل بينه وبينها مرة أخرى. ومرة أخرى لا يجد أمامه سوى شعره يبثه أحزانه وآلامه : فإن يحجبوها أو يحل دون وصلهـا ** مقالة واش أو وعيد أمير فلن يمنعوا عيني من دائم البكــــــا ** ولن يذهبوا ما قد أجن ضمير إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى ** ومن كرب تعتادني وزفير ومن حرق للحب في باطن الحشـــى ** وليل طويل الحزن غير قصير سأبكي على نفسي بعين غزيـــرة ** بكاء حزين في الوثاق أسير وكنا جميعاً قبل أن يظهر الهــــوى ** بأنعم حال وغبطة وسرور فما برح الواشون حتى بدت لهــــــم ** بطون الهوى مقلوبة لظهور لقد كنت حسب النفس لـــــــــــــو دام ** وصلنا ولكن ما الدنيا متاع غرور ومع ذلك فقد كانت تتاح للعاشقين من حين إلى حين فرصة لقاء يائس حزين تزداد معه حرق الحب تأججاً واشتعالا، ويتجسم بعده الشعور بالحرمان، والإحساس بالحسرة والندم. وساءت حال قيس، واعتلت صحته، وأصابه هزال وذهول شديدان، وأشار قومه على أبيه أن يزوجه عله ينسى حبه القديم. وتزوج قيس كارها زواجاً لا سعادة فيه، وبلغ الخبر لبنى فتزوجت هي أيضاً زواجا لا سعادة فيه، وتقول الروايات أن لبنى لما سمعت بإهدار دم قيس قبلت الزواج من رجل آخر وهو خالد بن حلزة، لكي تجبر قيسا على الابتعاد عنها وتحميه من القتل ، وأن قيسا تزوج بعد سماعه بزواج لبنى. أيا كانت الروايات فلبنى فعلت ذلك وهي ما تزال تكن كل الحب لزوجها السابق قيس ، وقيس كان يعلم بذلك. كان قيس يعرف أن لبنى تحبه بمقدار ما أحبها، فركب راحلته وذهب إلى خيام أهلها وهناك راح ينشد الشعر. يقول قيس بن ذريح مصورا كيف يروض نفسه على الرضا بالحرمان الذي فرض عليه، والتشبث بالآمال الضائعة التي أفلتت منه : إن تك لبنى قد أتى دون قربهـــا ** حجاب منيع ما إليه سبيل فإن نسيم الليل يجمع بينــــــنـــا **ونبصر قرن الشمس حين تزول وأرواحنا بالليل في الحي تلتقي ** ونعلم أنا بالنهار نقيل وتجمعنا الأرض القرار، وفوقنــــا ** سماء نرى فيها النجوم تجول إلى أن يعود الدهر سلمــــــــــــا ** ترات بغاها عندنا وذحول ويقول قيس بن ذريح مصورا عجزه عن نسيان لبنى، وكيف يخونه الصبر كلمامرت به ذكراها: أريد سلوا عن لبنى وذكرهـــا ** فيأبى فؤادي المستهام المتيم إذا قلت أسلوها تعرض ذكرها ** وعاودني من ذاك ما الله أعلم صحا كل ذي ود علمت مكانــه ** سواي فإني ذاهب العقل مغرم ويقول أيضا مصوراً محاولاته السلوان، وكيف ترده عنها نفسه الوالهة ودموعه المهراقة، حتى لتصبح هذه المحاولات تكليفا لنفسه فوق ما تطيق. ففي أعماقه نار لا تكف عن التأجج والتوهج : وحدثتنى يا قلب أنك صابـــــــــر ** على البين من لبنى فسوف تذوق قمت كمدا أو عش سقيما فإنمــــا ** تكلفني ما لا أراك تطيق إذا أنا عزيت الهوى أو تركتــــــه ** أنت عبرات بالدموع تسوق كأن الهوى بين الحيازيم والحشـا ** وبين التراقي واللهاة حريق أريد سلوا عنكم فيردنـــــــــــــى ** عليك من النفس الشعاع فريق ورحل بها زوجها إلى المدينة، وكأنما شاءت الأقدار أن تقرب لبنى من قيس لتزيد من ندمه وأسفه وحسراته. واشتد جزع قيس، ولم يلبث أن استطار عقله ولحقه مثل الجنون ، وضاقت السبل فى وجهه، ثم خطر له أن يلجأ إلى يزيد بن معاوية ليتوسط له عند أبيه حتى يلغي أمره السابق بإهدار دمه. ونجحت وساطة يزيد، وعفا معاوية عن قيس، فعاود زيارة لبنى. وانتشر أمر قيس في المدينة، وغنى في شعره مغنوها ومغنياتها، فلم يبق شريف ولا وضيع إلا سمع بذلك فأطربه وحزن لقيس مما ألم به. وقد روى الأصفهاني في كتابه "الأغانى" أن أشعار قيس لحنها الملحنون وغناها المطربون فاشتهرت وذاع صيتها حتى سمع بها زوج لبنى وساءت العلاقات بينهما ، فثار عليها، لكنها لم تعبأ بثورته وطالبته أن يطلقها إن شاء . ولكن الزوج أدرك ألا خطأ لها ولا ذنب، فهدأت ثائرته، ويقال أنه أراد أن يصلحها فأحضر الجواري من المدينة ليغنين لها أشعار قيس ! وعادت الأمور تتعقد في وجه قيس مرة أخرى، وازدادت همومه وأعباؤه، وأخذت صحته في الانهيار، والأسقام تلح عليه إلحاحاً عنيفاً. يقول تارة : إذا ذكرت لبنى تأوه واشتكى ** تأوه محمود عليه البلابل يبيت ويضحي تحت ظل منــــية ** به رمق تبكي عليه القبائل قتيل للبنى صدع الحب قلبــــه ** وفي الحب شغل للمحبين شاغل ويقول تارة أخرى : سلا كل ذى شجو علمت مكانــــه ** وقلبى للبنى ما حييت ودود وقائلة قد مات أو هو ميــــــــــت ** وللنفس مني أن تفيض رصيد أعالج من نفسي بقايا حشاشــة ** على رمق، والعائدات تعود فإن ذكرت لبنى هششت لذكرها ** كما هش للثدي الدرور وليد أجيب بلبنى من دعاني تجلـــــدا ** وبي زفرات تنجلي وتعود تعيد إلى روحي الحياة، وإننــي ** بنفسي لو عاينتني لأجود حكاية لبنى تختلف كثيراً عن صاحبتيها ليلى وبثينة، فالقدر هو الذي فرق بينها وبين قيس بن ذريح، ولم يكن بوسعها أن تفعل شيئا وليومنا هذا مازال الاتهام يحاصر الزوجة أولا إذا لم تنجب، فإذا ثبت أن الزوج هو السبب نصحت بأن تضحي من أجله وتبقى معه، أما إذا ثبت أن الزوجة هى العاقر فلا أحد يطالب الزوج بأي تضحية، ويصبح من حقه أن يتزوج عليها أو أن يطلقها . وحكاية الأصفهاني تدل على أن لبنى لم تسلم قلبها للزوج الثاني الذي فرض عليها فرضاً، وظلت حزينة مجروحة الفؤاد تبكي بحرقة كلما تذكرت قيسا، أو كلما سمعت أشعاره الحزينة ترددها الجواري في مجالس الغناء . ثم تكون النهاية التي اختلف الرواة حولها، فمن قائل إن زوجها طلقها فأعادها قيس إلى عصمته ولم تزل معه حتى ماتا، ومن قائل إنهما ماتا على افتراقهما، وعلى ذلك أكثر الرواة. ثم يختلفون بعد ذلك، فمنهم من يقول إنه مات قبلها وبلغها نعيه فماتت أسفا عليه، ومنهم من يقول إنها ماتت قبله، فخرج ومعه جماعة من أهله، فوقف على قبرها،ثم أكب عليه وظل يبكي حتى أعمى عليه، فحملوه إلى بيته وهو لا يعي شيئاً، ولم يزل عليلا لا يفيق ولا يجيب حتى مات بعد ثلاثة أيام، ويقال أنه فقد عقله، وظل طريح الفراش حتى لحق بها، فدفن إلى جوارها . وهي أكثر الروايات وأرجحها فقد بكاها قيس وأنشد على قبرها هاته الأبيات التي نسبت إليه : ماتت لبنى فموتها موتي هل ** تنفعن حسرتي على الفوت وسوف أبكي بكاء مكتئب ** قضى حياة وجدا على موت وبهذه النهاية أسدل الستار على مأساة أخرى من مآسي الحب العذري. وإذا كانت مأساة قيس بن ذريح ولبنى تمثل شيئاً من الخروج على هذا التشابه، فإن الإطار العام الذي دارت في داخله أحداثها يوشك أن يكون نفس الإطار الذي دارت فيه سائر المآسي الأخرى. عاشقان يحب كل منهما صاحبه إلى درجة الجنون، ثم عقبات تعترض طريق سعادتهما فتفرض عليهما الشقاء والحرمان، ثم موت يطويهما، وستار حزين يسدل على المأساة، وذكريات تبقى، وشعر يخلد، ورمال البادية المتحركة تطوي في أعماقها أسرارا، وتكشف أسرارا أخرى. وهكذا لم يستطع تحكم الأهل ولا سيطرة العرف والتقاليد، ولا احتجاب لبنى عن حبيبها، أو ابتعادها أو زواجها من رجل آخر أن يحملوا قيسا على نسيانها . بل لعل هذه الأمور مجتمعة كانت وقودا أشعل نار الحب في قلب شاعرنا . وجعلها تزداد اضطراما مع الأيام، كما كانت جذوة ألهبت موهبته فانطلق يقول أعذب الشعر . جميل وبثينة قريبا من الوقت الذى شهدت فيه نجد مأساة قيس وليلى، وشهد الحجاز مأساة قيس ولبنى، شهدت أرض بنى عذرة مأساة أخرى من مآسى الحب العذرى، هى مأساة جميل وبثينة. إذا كانت مأساة قيس وليلى على شهرتها المستفيضة أشد هذه المآسي اختلاطاً واضطرابا لكثرة ما دخلها من وضع الرواة، وتزيد القصاص، وأوهام السمار، فإن مأساة جميل وبثينة أبعد هذه المآسي عن الاختلاط والاضطراب، وأقربها إلى الواقع الذي نجا من عبث أصحاب الرواية والقصص والسمر. حدثت القصة في العصر الأموي وفي عهد الخليفة عبد الملك بن مروان أو الخليفة الوليد بن عبد الملك. كانت بثينة فتاة من بني الأحب، وهم من رهط بني عذرة، وكذلك جميل، كان من رهط آخر من بني عذرة هم رهط عامر، وبني عذرة كانت تنزل في البادية العربية شمال الحجاز، في وادي القرى الذي يقع على مقربة من الطريق التجاري بين مكة والشام ، وهو واد خصب، استقرت به تلك القبيلة، وكانت مشهورة منذ العصر الجاهلي بالقوة والمنعة والشرف. وقد دخلت بنو عذرة الإسلام في السنة السابقة للهجرة، وشارك أبناؤها في غزوات الرسول وفي الفتوحات الإسلامية . أحب جميل بن معمر العذري بثينة بنت الحباب وبدأت القصة كالتالي : رأى بثينة وهو يرعى إبل أهله، وجاءت بثينة بإبل لها لترد بها الماء، فنفرت إبل جميل، فسبها، ولم تسكت بثينة وإنما ردت عليه، أي سبته هي أيضاً.. وبدلا من أن يغضب أعجب بها، واستملح سبابها فأحبها وأحبته، وبدأت السطور الأولى في قصة هذا الحب العذري الخالدة. حيث تطور الإعجاب إلى حب، ووجد ذلك صدى لديها، فأحبته هي أيضاً، وراحا يتواعدان سرا. يقول جميل : وأول ما قاد المودة بيننـــا ** بوادي بغيض، يا بثين، سباب فقلنا لها قولا فجاءت بمثله ** لكل كلام، يا بثين، جواب وتمر الأيام، وسطور القصة تتوالى سطراً بعد سطر. لقد اشتد هيام جميل ببثينة،واشتد هيامها به، وشهدت أرض عذرة العاشقين يلتقيان ولا يكاد أحدهما يصبر عن صاحبه. وكلما التقيا زادت أشواقهما، فيكرران اللقاء حتى شاعت قصتهما، واشتهر أمرهما، ووصل الخبر إلى أهل بثينة ، فتوعده قومها، وبدلاً من أن يقبلوا يد جميل التي امتدت تطلب القرب منهم في ابنتهم رفضوها، وأبوا بثينة عليه وردوه دونها، وتوعدوه بالانتقام، ولكي يزيدوا النار اشتعالاً سارعوا بتزويج ابنتهم من فتى منهم، هو نبيه بن الأسود العذري. وكان جميل من فتيان عذرة وفرسانها الأشداء، وكان قومه أعز من قوم بثينة، فوقف في وجههم فجميل لم يستسلم، بل راح يتحدى أهل بثينة، ويهزأ بهم، ويهددهم منشدا : ولو أن ألفا دون بثينة كلهم ** غيارى، وكل حارب مزمع قتلي لحاولتها إما نهارا مجاهـــرا ** وإما سرى ليل ولو قطعت رجلي ويقول أخرى: فليت رجالا فيك قد نذروا دمـــي ** وهموا بقتلي، يا بثين، لقوني إذا ما رأوني طالعاً من ثنيــــــة ** يقولون: من هذا ؟ وقد عرفوني يقولون لي: أهلا وسهلا ومرحبا ** ولو ظفروا بي خاليا قتلوني ولم يغير هذا الزواج من الحب الجارف الذي كان يملأ على العاشقين قلبيهما، فقد كان جميل فارسا شجاعا يعتز بسيفه وسهامه، فلم يتأثر حبه لبثينة بزواجها، ووجد السبل إلى لقائها سراً في غفلة من الزوج. وظلت العلاقة بينهما كما كانت من قبل، يزورها سرا في غفلة من زوجها، أو يلتقيان خارج بيت الزوجية، وما بينهما سوى الطهر والعفاف. وكان الزوج يعلم باستمرار علاقة بثينة بجميل ولقاءاتهما السرية، فيلجأ إلى أهلها ويشكوها لهم، ويشكو أهلها إلى أهل جميل. لكي تتوقف اللقاءات فترة، ثم تعود أقوى وأشد مما كانت. فبثينة لم تكن تعبأ بما قد يفعله زوجها أو أهلها لقد أرغموها على الزواج بمن لا ترغب، وكان من رأيها عليهم أن يتحملوا وزر فعلتهم. وتحدث إليه أهله في أمر هذه العلاقة الغريبة التي لا أمل فيها، وهذا الإلحاح الذليل خلف امرأة متزوجة، وحذروه مغبة الاندفاع في هذا الطريق الشائك الوعر، وما ينطوي عليه من عواقب وخيمة، وهددوه بأن يتبرؤوا منه ويتخلوا عنه إذا استمر في ملاحقته لها ، ولكنه لم يستطع أن يبرأ من حبه لبثينة. وهذا كله لم يغير من الأمر شيئا، ولم يفلح في إطفاء الجذوة المتقدة في قلبي العاشقين. لقد امتنع جميل عن بثينة فترة من الزمن لم تطل، ثم عادت النار تتأجج في فؤاده، فعاود زيارتها، بل تمادى في علاقته بها، وفى تحديه لأهلها واستهانته بزوجها، فلم يجدوا أمامهم سوى السلطان يشكونه إليه، فشكوه إلى عامر بن ربعي وإلى بنى أمية على وادي القرى، فأنذره وأهدر لهم دمه إن رأوه بديارهم. وامتنع جميل عن بثينة مرة أخرى، ومرة أخرى ألح عليه الشوق، ولم يطق عنها صبراً، فعاود زيارتها معرضا نفسه للهلاك. وأعاد أهلها شكواهم إلى السلطان، فطلبه طلبا شديداً. وقد حاول العذريون أن يحلوا مشكلة هذا الصراع بترويض نفوسهم على الرضا بالحرمان، وهو رضا أحال حياتهم وهما كاذبا، وسرابا خداعا، وأحلاما لا تقوم على أساس من الواقع العملي الذي تقوم عليه حياة غيرهم من الناس. يقول جميل معبراً عن هذه الفكرة، فكرة الرضا بالحرمان، والقناعة بالوهم الكاذب الخداع: وإني لأرضى من بثينة بالـــــــــذي ** لو أبصره الواشي لقرت بلابلة بلا، وبأني لا أستطيع، وبالمنــــى ** وبالأمل المرجو قد خاب أمله وبالنظرة العجلى، وبالحول تنقضي ** أواخره لا تلتقي وأوائله لقد تصور هؤلاء العذريون مشكلتهم على أنها قدر مقدور قضاه الله عليهم فلا يملكون معه إلا الصبر عليه والرضا به. يقول جميل معبرآ عن هذه القدرية المحتومة: لقد لامني فيها أخ ذو قراـــــــبة ** حبيب إليه في ملامته رشدي فقال: أفق، حتى متى أنت هائم ** ببثينة فيها لا تعيد ولا تبدي؟ فقلت له: فيها قضى الله ما تـرى ** علي، وهل فيما قضى الله من رد؟ فإن يك رشدا حبها أو غوايـــــة ** فقد جئته، ما كان مني على عمد لقد لج ميثاق من الله بيننــــــــــا ** وليس لمن لم يوف لله من عهد إنه لم يعد يملك من أمر نفسه شيئا، لقد قضى الله عليه هذا الحب، ولا راد لقضائه، إنه قدر مقدور لا يملك له دفعا ولا ردا. ومع ذلك لم يفلح العذريون في حل مشكلة هذا الصراع فى نفوسهم، أو إقناع أنفسهم بأن المسألة قدر مقدور لا يملكون معه شيئا، أو ترويضها على الرضا بالحرمان الذي فرض عليهم، وإنما كانت كلها محاولات يحاولونها، قد ينجحون فيها في بعض الأحيان، ولكنهم في أكثر الأحيان كانوا يخفقون. فنرى في شعرهم الشكوى الصارخة، والأحزان التي يعجزون عن إخفائها، والدموع التي لا يملكون لها كتمانًا، والسخط الذي لا يقدرون على التخلص منه. وشعر العذريين جميعا مطبوع كله بهذا الطابع الحزين الباكي، حتى ليعد هذا الطابع من أقوى طوابعه المميزة وأعمقها. ونعود لبطل قصتنا مرة أخرى. بعد كل الأحداث التي تناولته فر جميل إلى اليمن حيث أخواله من جذام، وظل مقيما بها حتى عزل ابن ربعي، فعاد إلى وطنه ليجد قوم بثينة قد رحلوا إلى الشام، فرحل وراءهم. وكأنما يئس جميل من هذه المطاردة التي لا تنتهي، والتي أصبح الأمل فيها ضعيفا، والفرصة ضيقة. لقد فرقت البلاد بينه وبين صاحبته، ولم يعد لقاؤهما ميسراً كما كان عندما كانت تضمهما جميعاً أرض عذرة، فقرر أن يرحل إلى مصر، ليلحق ببعض قومه الذين سبقوه إليها، واستقروا بها، كما فعلت كثير من القبائل العربية التي هاجرت إليها بعد الفتح. وانتهز جميل فرصة أتيحت له في غفلة من أهل بثينة، فزارها مودعا الوداع الأخير، ثم شد رحاله إلى مصر حيث قضى فترة من الزمن لم تطل، يتشوق إليها، ويحن لها، ويتذكر أيامه معها، ويبكي حبه القديم. يقول جميل : ألا ليت أيام الصفاء جديـــــــــــــد ** ودهرا تولى يا بثين يعود فنغنى كما كنا نكون، وأنتـــــــم ** صديق، وإذ ما تبذلين زهيد وما أنس من الأشياء لا أنس قولـها ** وقد قربت نضوى: أمصر تريد ؟ ولا قولها: لولا العيون التي تــرى ** أتيتك فاعذرني فدتك جدود علقت الهوى منها وليدا فلم يـــزل ** إلى اليوم ينمى حبها ويزيد فلو تكشف الأحشاء صودف تحتها ** لبثينة حب طارف وتليد ألا ليت شعري هل أبيتن ليلـــــــة ** بوادي القرى إني إذن لسعيد وهل ألقين سعدي من الدهر مــرة ** ومارث من حبل الصفاء جديد وقد تلتقى الأهواء من بعد يأســة ** وقد تطلب الحاجات وهي بعيد ولكن القدر أبى أن تلتقي الأهواء بعد يأس، أو أن تدرك الحاجات البعيدة، فلم تطل أيام جميل بمصر، فقد أخذ النور يخبو، ثم انطفأ السراج، وودع جميل الحياة بعيداً عن بثينة التي أفنى شبابه في طلبها، بعيداً عن أرض عذرة التي شهدت أيامهما السعيدة وأيامهما الشقية، بعيدا عن وادي القرى الذي كان يتمنى أن يعود إليه ليبيت فيه ليلة تكتمل له فيها سعادته. يقول جميل مصورا أحزانه الطاحنة التي تحطم نفسه تحطيما حتى ليوشك أن ينهار تحت وطأتها: وما ذكرتك النـــفس يـــــا بثــيــن مـــــــــــرة ** من الدهر إلا كادت النفس تتلف وإلا علتني عبرة واســــــتكـــانـــة وفــــاض ** لها جار من الدمع يذرف تعلقتها، والنفس مني صــــحيـــحة فـــمــــــا ** زال ينمى حب جمل وتضعف إلى اليوم حتى سل جسمي وشفني وأنكرت ** من نفسي الذي كانت أعرف وفي ظل هذا الصراع الحاد بين اليأس والأمل، وفي ظل هذه المحاولات السلبية للسلو والنسيان عاش العذريون مخلصين لمحبوباتهم. لقد وهب كل منهم حياته لواحدة أخلص لها حبه ولم يشرك به حبا آخر، لا يعدوها إلى غيرها، ولا يصرف هواه إلى سواها، ولا ينقل فؤاده حيث شاء من الهوى، وإنما يعيش حياته على ما فيها من حرمان وأحزان ، فقد ارتبطت حياته بها، وأصبح كل شئ فيها ملكاً لها، واستحالت أيامه ولياليه ذكرياتا وأحلاما استقرت في شعروه وفي لا شعوره فهو يعيش بها ولها وعليها، ولم يعد في قلبه متسع لمحبوبة أخرى بعد أن ثبت حبها فيه كما ثبتت فى الراحتين الأصابع. وبلغ نعيه بثينة بعد حين، فسقطت مغشيا عليها، حتى إذا ما أفاقت أنشدت هذين البيتين اللذين تعاهد فيهما نفسها على الوفاء لعهده والإخلاص لذكراه، واللذين أودعت فيهما كل ما تفيض به نفسها مرارة ويأسا بعده : وإن سلوى عن جميل لساعـة ** من الدهر ما حانت ولا حان حينها سواء علينا يا جميل بن معمر ** إذا مت بأساء الحياة ولينها وتمر الأيام عليها بعد ذلك حزينة باكية، وتتوالى الليالي طويلة ثقيلة موحشة، تستعيد فيها ذكريات حبها البعيدة، وتسترجع ما مر بها في ماضيها السعيد الذي طوته رمال عذرة إلى الأبد. ويأخذ النور يخبو، ثم ينطفئ السراج، وتودع بثينة الحياة بعيدة عن جميل الذي وهبته حبها وإخلاصها، بعيدة عن أرض عذرة ووادي القرى ووادي بغيض حيث خط طفل الحب أول سطر في كتاب حبهما الخالد. كانت النهاية المحتومة التي لا مفر منها، إنه الموت. ودع العاشق حياته على أمل في أن يجمع الله بينه وبين صاحبته بعد الموت، عسى أن يتحقق له فى العالم الخالد ما لم يتحقق له في العالم الفاني. أمنية تمناها كل عاشق عذري، وأغمض عينيه عليها. أمنية تمناها جميل كما تمناها عروة بن حزام قبل حيث يقول : وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني ** وعفراء يوم الحشر ملتقيان فيا ليت محيانا جميعا، وليتــــــنا ** إذا نحن متنا ضمنا كفنان أما جميل فيقول جميل: أعوذ بك اللهم أن تشحط النوى ** ببثينة في أدنى حياتي ولا حشري وجاور إذا ما مت بيني وبينـــها ** فيا حبذا موتي إذا جاورت قبري ويقول أيضا: ألا ليتنا نحيا جميعا، وإن نمت ** يواف ضريحي في الممات ضريحها فما أنا في طول الحياة براغب ** إذا قيل قد سوى عليها صفيحها وبهذه الأبيات نسدل الستار على مأساة أخرى من مآسي الحب العذري الحزينة. ولكن ما نوع تلك اللقاءات المتكررة بين جميل وبثينة ؟ هل كانت لقاءات بريئة كما يؤكد بعض الرواة ؟! ولكن كيف نصدق تلك الروايات وجميل نفسه يؤكد لنا في أشعاره أنه كان يقضي الليل كله بصحبة بثينة . مضطجعا بجوارها، أحيانا لمدة ثلاث ليال !! فإذا ما أسفر الصبح أو كاد، تشفق بثينة عليه، وتلح عليه أن ينصرف فيأبى معتزاً بسيفه وسهامه ولكنها تلح حتى ينصرف. بعض الروايات تؤكد أن جميلاً كان مستهتراً ماجنا، وبعضها الآخر يؤكد أنه كان عاشقا ولها. ويذكر الرواة في أحاديثهم عن هؤلاء العذريين أخباراً كثيرة عن هذه العفة وهذا الطهر، ويصفون لقاء جميل وبثينة في أحضان الليل بعيداً عن أعين الرقباء، وكيف كانا يقضيان الوقت يسألها عن حالها وتسأله عن حاله، وتستنشده ما قال فيها من شعر فينشدها، ولا يزالان يتحدثان، لا يقولان فحشاً ولا هجراً، حتى إذا قارب الصبح ودع كل منهما صاحبه أحسن وداع، وانصرفا وكل منهما يمشي خطوة ويلتفت إلى صاحبه حتى يغيبا. وفى اللحظات الأخيرة من حياة جميل، وهو فوق ذلك المعبر الضيق الذي يفصل بين شط الحياة وشط الموت، أقسم أنه ما وضع يده على بثينة لريبة، وأن أكثر ما كان منه أن يسند يدها إلى فؤاده. ((((( ولنا لقاء آخر مع قصة جميلة كهذه.))))) -------------------------------------------------------------------------------- عمرو بن كعب وعقيلة هذه صورة أيضاً كانت فيها مأساة عمرو بن كعب بن النعمان الملك وابنة عمه عقيلة. نشأ عمرو معها في بيت أبيها بعد وفاة أبيه، وربط الحب بين القلبين الصغيرين، حتى إذا ما كبرا تقدم إلى أبيها يطلب عونه لما كان بين أسرتيهما من صلة. ثم يبلغه أن عمه زوج عقيلة لأحد من بني فزارة، فكانت صدمة له لم تقوى على احتمالها أعصابه فانهار، وانطلق إلى الصحراء ذاهلا عن كل شيء هائما على وجهه في إقليم اليمامة، وقد شد بصره إلى السماء، حتى أدركته منيته في تيه لم يعرف مكانه فيه. وفى بيت الفزارة تعيش عقيلة كما يذكر الرواة عذراء، وتنهار أعصاب زوجها، فيخرج هو أيضا إلى الصحراء هائما على وجهه فلا يدري أين مذهبه. وتعود عقيلة إلى بيت أبيها تندب حظها، وتبكي مأساتها، وتدب الأدواء والأسقام في جسدها حتى تذويه وتضنيه، ثم يضمها الموت إليه لتلحق بحبيبها. (((((هذا ما وصل من أحداث هذه القصة))))) -------------------------------------------------------------------------------- عبد الله بن العجلان وهند وعلى نحو من نفس الصورة السابقة تقريبا كانت مأساة عبد الله بن العجلان وهند، وكلاهما من نهد من قضاعة. وهي أقرب مأساة جاهلية إلى مأساة قيس بن ذريح ولبنى، وأشدها شبهأ بها. رأى عبد الله هندا على بعض المياه فأحبها، ثم مضى إلى أبيها فخطبها، وتحقق له أمله فتزوجها وعاش معها بضع سنين كأسعد ما يكون ، حبيبان ربط بينهما رباط الزوجية المقدس. ولكن القدر أبى عليهما السعادة التي ينعمان بها، فقد كانت هند عاقرا، وكان عبد الله وحيد أبويه، وكان أبوه سيدا من سادات قومه المعدودين، ومن أكثرهم مالاً وأوسعهم ثراء، فطلب إليه أن يطلقها ويتزوج غيرها عسى أن ينجب منها من يحفظ على الأسرة مالها وكيانها. وأبى عبد الله، وتحرجت الأمور بينه وبين أبيه الذي أقسم أن لا يكلمه حتى يطلقها وتمسك عبد الله بزوجه الحبيبة، ولكن أباه جمع عليه أعمامه وأبناء أعمامه، وما زالوا به حتى ضعف أمامهم فانفصل عنها. وما إن نفذ السهم حتى أسف عليها، وندم على فراقها، واشتد حزنه وجزعه من أجلها. ثم تزوجت هند في بني شخص اسمه نميـر، فضاقت السبل في وجه عبد الله، وانهارت أعصابه، واصطلحت على جسده العلل والأدواء. وعرض عليه أهله فتيات الحي لعل إحداهن تعجبه فتنسيه صاحبته الأولى، ولكنه رفض الزواج. وقضى عبد الله بعد ذلك حياته يبكي حبه القديم، وفردوسه المفقود، وسعادته الضائعة، حتى مات حزنا عليها، وأسفا على أمل كان بين يديه ثم فرط فيه فضاع منه إلى الأبد. -------------------------------------------------------------------------------- عنترة وعبلة أشهر قصص "المتيمين" الجاهليين هي هذه القصة. هي قصة تستمد شهرتها من ناحيتين : من شهرة صاحبها الفارس الشاعر البطل، ثم من القصة الشعبية التي دارت حولها. وعلى الرغم من شهرة هذه القصة، وعلى الرغم من ضخامة القصة الشعبية التي دارت حولها وكثرة التفاصيل والحواشي بها، فإن المصادر القديمة لا تمدنا بكثير من تفاصيلها، ولكنها في إطارها العام قصة ثابتة لا شك فيها بدلالة شعر عنترة الذي يفيض بأحاديث حبه وحرمانه. نشأ عنترة العبسي من أب عربي هو عمرو بن شداد، وكان سيدا من سادات قبيلته، وأم أجنبية هي زبيبة الأمة السوداء الحبشية، وكان أبوه قد سباها في بعض غزواته. وسرى السواد إلى عنترة من أمه، ورفض أبوه الاعتراف به، فاتخذ مكانه بين طبقة العبيد في القبيلة، خضوعا لتقاليد المجتمع الجاهلي التي تقضي بإقصاء أولاد الإماء عن سلسلة النسب الذهبية التي كان العرب يحرصون على أن يظل لها نقاؤها، وعلى أن يكون جميع أفرادها ممن يجمعون الشرف من كلا طرفيه : الآباء والأمهات، إلا إذا أبدى أحد هؤلاء الهجناء امتيازا أو نجابة فإن المجتمع الجاهلي لم يكن يرى في هذه الحالة ما يمنع من إلحاقه بأبيه. وحانت الفرصة لعنترة في إحدى الغارات على عبس، فأبدى شجاعة فائقة في رد المغيرين، وانتزع بهذا اعتراف أبيه به، واتخذ مكانه فارساً من فرسان عبس الذين يشار إليهم بالبنان. ووقف طفل الحب الخالد يلقى سهامه النافذة ليجمع بين قلب عنترة وقلب ابنة عمه عبلة بنت مالك. وتقدم عنترة إلى عمه يخطب إليه ابنته، ولكن اللون والنسب وقفا مرة أخرى في طريقه، فقد رفض مالك أن يزوج ابنته من رجل يجري في عروقه دم غير عربي، وأبت كبرياؤه أن يرضى بعبد أسود مهما تكن شجاعته وفروسيته زوجاً لابنته العربية الحرة النقية الدم الخالصة النسب. ويقال إنه طلب منه تعجيزاً له وسدا للسبل في وجهه ألف ناقة من نوق الملك النعمان المعروفة بالعصافير مهراً لابنته، ويقال إن عنترة خرج في طلب عصافير النعمان حتى يظفر بعبلة، وأنه لقي في سبيلها أهوالا جساما، ووقع في الأسر، وأبدى في سبيل الخلاص منه بطولات خارقة، ثم تحقق له في النهاية حلمه، وعاد إلى قبيلته ومعه مهر عبلة ألفاً من عصافير الملك النعمان. ولكن عمه عاد يماطله ويكلفه من أمره شططا، ثم فكر في أن يتخلص منه، فعرض ابنته على فرسان القبائل على أن يكون المهر رأس عنترة. ثم تكون النهاية التي أغفلتها المصادر القديمة وتركت الباحثين عنها يختلفون حولها، فمنهم من يرى أن عنترة فاز بعبلة وتزوجها، ومنهم من يرى أنه لم يتزوجها، وإنما ظفر بها فارس آخر من فرسان العرب. وفي أغلب الظن أن عنترة لم يتزوج عبلة، ولكنه قضى حياته راهبا متبتلا في محراب حبها، يغني لها ويتغنى بها، ويمزج بين بطولته وحبه مزاجا رائعاً جميلاً. وهو يصرح في بعض شعره بأنها تزوجت، وأن زوجها فارس عربي ضخم أبيض اللون، يقول لها في إحدى قصائده الموثوق بها التي يرويها الأصمعي : إما تريني قد نحلت ومن يكـن ** غرضاً لأطراف الأٍنة ينحل فلرب أبلج مثل بعلك بـــــادن ** ضخم على ظهر الجواد مهبل غادرته متعفرا أوصالــــــــــه ** والقوم بين مجرح ومجدل لقد تزوجت عبلة من غير عنترة بعد ذلك الكفاح الطويل الذي قام به من أجلها، وأبى القدر أن يحقق للعاشقين حلمهما الذي طالما عاشا فيه. وعاش عنترة بعد ذلك عمراً طويلا يتذكر حبه القديم، ويحن إلى أيامه الخالية، ويشكو حرمانه الذي فرضته عليه أوضاع الحياة وتقاليد المجتمع، وقد طوى قلبه على أحزانه ويأسه، وألقى الرماد على الجمرة المتقدة بين جوانحه، وهو رماد كانت ذكريات الماضي تلح عليه من حين إلى حين، فتكشف عن الجمرة التي لم تنطفئ جذوتها من تحته، حتى ودع الحياة. وأسدل الموت الستار على قصة حبه . مـــــــ........ــــــــــــع تحياااااااااااااااااااااااااااااات [""-أسير~~~الشوق-""] وشـــــكــــــــــــــــــــراً ................. ....... |
|
01-Feb-2010, 11:19 AM | #3 |
شاعر التحدي
|
اسير
قريت ثم قريت ثم قريت لين انحولت وانا اقراء ااااااااااااه ااااااااااااااااااه اااااااااااااااااه تعبت وانا اقراء وفي الاخير كن بخيرا بدوي فااااهم |
|
01-Feb-2010, 06:04 PM | #5 |
عضو مميز
|
سيف المهيمزي مشكوووورويعطيك الف عافية
علي عواض مشكوووووور ويعطيك الف عااافية انت وسيف ياأصدقاء الطفولة الجميلة بدوي فاااهم كل الشكر لك على المرور والقراءة ولك مني ارق تحيييييييييييييييييية وشــــــــــــــكــــــــــــــــراً |
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
(عرض الجميع ) الأعضاء الذين قرأوا الموضوع هم : 0 | |
عفوا لا توجد أسماء للعرض. |
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
ِِِلغة الحب أو أبجديات الحب ثماااااانية ِِِِ | النجلآ | ◄ المنتدى العــام ► | 10 | 05-Mar-2012 10:10 PM |
أفضل قصه قصيره عن الحب بعنوان هكذا بدأت قصة الحب | حكيم الزمان | ◄ منتدى القصص والثـقافة ► | 7 | 06-Feb-2012 04:07 PM |
قصة الحب الخالد ( قصة قيس وليلى) | أبو سامي المهيمزي | ◄ منتدى القصص والثـقافة ► | 2 | 07-Nov-2010 08:48 PM |
عنتر العبسى | عيسى محمد الرشيدي | ◄ أخبار القبيلة في الوطن العربي ► | 7 | 28-Oct-2009 01:10 AM |